Tuesday, November 29, 2016

اليوم الرابع في صوم الميلاد 28 نوفمبر 2016

شهر ديسمبر (تب هث اليهودي) في فلسطين وإن كان ليس مطيرا نسبيا ، إلا أنه من أشد شهور السنة برودة. لذلك كانت الرحلة من الناصرة إلى بيت لحم ، والتي استغرقت ثلاثة أيام كاملة شاقة للغاية ومجهدة للعذراء أقصى إجهاد ... وما أن انتهى يوسف ومعه مريم القديسة من الاستقرار في المغارة الملحقة بالخان والمعدّة للركايب – إذ لم يجدوا مكانا في الخان نفسه ، حتى بدأ يرخي الليل سدوله لأن نهار الشتاء قصير ... فأسرعوا و أفرغوا ما في (الخُرج) من أدوات السفر والأكل والملابس القليلة والغطاء الذي افترشوه ، وجلسوا ليستريحوا ..... 

كان كل شيء حولهم غير مناسب ولا يمكن أن يقبله ذوق أي إنسان ، وبالأخص لو أدخل في الحسبان احتمال حدوث "وضع" في هذا المكان بهذه الظروف ، ويكاد الإنسان بمشقة أن يضبط قلمه من أن يسترسل في وصف صعوبة هذا الحال وبؤسه ، كرامة للمولود !!

ولكن من ناحية أخرى ومهمة وذات اعتبار جوهري ، أن هذه الظروف بعينها كانت تناسب كل التناسب مع مشيئة يسوع المسيح نفسه إذ أراد أن يدخل إلى العالم بهذه الكيفية تماما !! 

· ألم يقل هو نفسه بعد ذلك طوبى للمساكين؟؟
كان ممكنا ، لو تقدموا يوما او بعض يوم ، ان يجدوا مكانا أو ربما غرفة خاصة ، ولكنه كان قد أضمر أن يسند رأسه أول ما يسنده في مذود للبهائم ... ألم يقل هو نفسه فيما بعد أن : "ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه" (لو 9 :58)؟؟ ... إنه حقا قد جاء ليجعل الراحة الحقيقية ليست للجسد وإنما للقلب !! ... كما نوى بالفعل أن يجعل من تعبه راحة للمتعبين ! ...

· هو فضّل ان يولد بين البهائم الطيبة ، ليس لأنه كان يكره الإنسان في شره ، أبدا ، ولكنه تنازل عن مكانه في الخان لإنسان آخر رآه أكثر حاجة ! ...
· لقد اختار أن يولد في هذا الظرف العجيب "الاكتتاب العام" أي التعداد ، لكي يأخذ رقما رسميا كمواطن على الأرض !! ... "مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس" ( غل 4 : 4-5). 
· ولم يكن جزافا أن يأتي مجيء أمه إلى بيت لحم قبل الميلاد ، بل هو قصد ذلك منذ الدهر إذ تكلم الأنبياء عن هذه المشيئة ، لأنه شاء أن أول نسمة هواء تدخل صدره  تكون من "بيت لحم" التي ترجمتها "بيت الخبز" – لأنه نوى منذ الدهور أن يقدم جسده قربانا لأبيه وخبزا حيا للعالم : "لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقربانا لم ترد ولكن هيأت لي جسدا ... ونحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة" ( عب 10 : 5 ، 10) ، " أنا هو الخبز الحي النازل من السماء .. الخبز الذي أنا أعطيه هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" ( يو 6 : 51).

لم يكن مع العذراء في ساعة الوضع أي إنسان – ولعل يوسف أيضا كان في الخارج – لأن الكتاب لم يذكر عبثا أنها هي بنفسها "قمطته و أضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل" ( لو 2 :7). ولم يقصد الرب هذا في نفسه ولأمه ترفعا عن معونة الناس ولكن حفظا لسر الميلاد ، لأن عجيبة ولادته من البتول يليق بها التحفظ والكتمان ؛ ولقد حرصت العذراء في سردها لهذه الظروف سواء للقديس لوقا كاتب الإنجيل أو لغيره أن يظل هذا السر مغلقا دون استقصاء. ولكن ليس عسيرا على العقول الطاهرة النقية أن تلمح من وراء هذا الحجاب الصامت الملقى على القصة ، بدقة وعمد ، أبعادا أخرى من الوقائع التي قد يكون سردها هنا أيضا خروجا على مشيئة الوحي !! .. 

ولكن على أية حال فهذا الاقتضاب الشديد في كشف وقائع الميلاد ، وإن كان فيه إجحاف بالبشرية المتعطشة لمعرفة المزيد من ظروف أعظم ميلاد حدث على وجه الأرض لأعظم إنسان ظهر في الوجود ، إلا أن هذا الاقتضاب عينه يرتفع بنا إلى مستوى الروح لنقدم الوقار الفائق واللائق بالأم البتول، وننحي ساجدين لهذا الطفل الإله الذي خرج من حضن الآب السماوي ليلتقي بنا في المذود !! ... نعم كان يليق فعلا بالإنجيل هذا الأسلوب الإلهي المبدع لأن عبارات البشر مهما طالت ودققت ، فهي ستقف في النهاية عاجزة عن وصف دخول المسيح العالم !! ... 

لقد جاءت قصة الميلاد مخيبة لكل آمال اليهود وتقاليد شيوخهم ، فكون المسيا يولد في مذود للبهائم شيء لا يطيقه العقل اليهودي، وقد قصد رب المجد أن يجعل من ميلاده آية اتضاعه حتى لا يؤمن به العقل إلا إذا انحنى إلى مستوى المذود ، كما جعل من صليبه آية طاعته العظمى للآب حتى لا يخلص به إلا الذي ينحني تحت ثقله وعاره ! .... 

الوعد : تأملات في الميلاد .. لأبونا متى المسكين

No comments:

Post a Comment